محور ارتكاز الكون
ماذا يمكن لي وأنا في السبعينات من العمر أن أفعل أكثر من الإتكاء على عصا خشبية كرجل ثالثة تسندني؟
هذا هو السؤال الذي أردت قوله لصاحب الأفكار المجنونة أحد طلابي "أدهم "والذي لدي سببان كافيان ومقنعان لاعتباره كائناً مريباً ، أولاهما : العينيين الخضراوين المخيفتين ، وثانيهما : نظرية الصفر محور ارتكاز الكون السخيفة التي تبناها ذات جنون وحشرني بها في زاوية الدهشة والرهبة !
أول مرة اعترف بها أمامي كان في القاعة ، وكانت المحاضرة في مقرر دراسي اسمه " تصميم منطقي رقمي " ، مقرر يعتمد على الصفر والواحد لبناء عالم الديجتال الخيالي والذي كان عود الثقاب الذي أشعل الثورة التنكولوجية والمعلوماتية منذ قرن ونصف تقريبا.
اعتدت خلال سنوات تدريسي في الخمسين عاما السابقة في الجامعات على تحفيز الدارسين بالأسئلة فطرحت سؤال مفاده /
في العالم الرقمي أيهما أكثر أهمية الصفر أم الواحد؟
وكالعادة أيضا طلبت من الطلبة أن يصوتوا لمعرفة جميع الإجابات وكان الجميع متفقا أن الواحد هو الأكثر أهمية كونه قيمة معلومة ولو كانت ضئيلة ، بينما أدهم اعترض المائتي طالب وقال بحنق : ياللغباء !!!!!
الصفر أكثر أهمية ، هو يامغفلين محور ارتكاز الكون !
سكنت القاعة وعصف بها الهدوء للحظات وبدت كالخواء ، واتسعت عيناي الملفوفتان بالتجاعيد باستغراب سرعان ما تحول للضحك كردة فعل فورية لما تضج به القاعة من السخرية الهستيرية الموجهة مع سبق الإصرار والترصد لأدهم شخصيا وفكريا، ثم تمالكت نفسي مرغمة فيجب أن أكون بموقف الحياد ، وصفقت صفقتين وقلت بعد أن سكت الجميع:
وضح فكرتك يا أدهم دون أن تشتم وتهاجم زملائك .
قال وهو يكظم غيضه:
الكون كله يرتكز على الصفر ،الصفر قيمة لم يصل العلم بكل تطوره لكميتها ومقداراها ، وقد تكون أكبر من أي قيمة وقد تكون أصغر قيمة ممكنة .. وبالتالي لو كانت أصغر قيمة ممكنة فهي إذاً نواة هذا الكون المترامي الأطراف ، ويصبح الصفر محور ارتكازه ، أما لو كانت أكبر قيمة فهذا يعني أنها ستكون قيمة هذا الكون الشاسع نفسه ، فإذا ما انتهى جاء الواحد ليعيده من جديد وهكذا ،أما إذا اعتبرنا أن الصفر هو لا شيء كما يعتقد العلم الحديث والقديم فبالتالي سيكون الصفر هو الحد الفاصل بين القيم الحقيقية الممثلة بالموجب رياضيا والأشياء الملموسة فيزيائيا ، وبين القيم التخيلية الممثلة بالسالب رياضيا والأشياء غير الملموسة فيزيائيا ، أي الأشياء الرقمية ذاتها .. أي أن انعدام قيمة الصفر هي نقطة الارتكاز لكلا العالمين الحقيقي والرقمي ، وهذا أيضا يأخذنا نحو حقيقة أن الصفر محور ارتكاز الكون .
كان الجميع منصتا ، والأفواه شبه مفتوحة ، والحيرة بدت واضحة على وجوه الجميع بينما الانبهار كان من نصيبي وحدي ، والإرهاق قد استحوذ على أدهم ونزلت قطرات عرق غزيرة من جبهته المستوية والعريضة لتنزلق فوق حاجبيه البنيين الكثيفيين ببطء ، بينما عيناه ازدادات اخضرارا كأنهما ليمونتان تعصرهما قبضتان قويتان كقبضتيه البارزة عروقهما ، سرقتني هذه التفاصيل لحظات صغيرة فقط ثم قلت بحذر وتوجس:
هل تعني أنه يمكن الاستغناء عن الواحد واستبداله في كل الأنظمة بالصفر وحده؟
قال بعد تفكير عميق دلل عليه ثبوت حدقتيه على شفتيّ الجافتين تماما بفعل هكذا حوارات :
بالضبط ! يمكننا مثلا أن نعبر عن الصفر بصفر واحد فقط بينما عن الواحد بصفرين متتاليين وهكذا فنستبدل بذلك حالة التذبذب بين قيمتين إحداهما محور والأخرى زائدة لادور لها ولافائدة منها.
امتلأت القاعة بالصخب من جديد ، وتعالت أصوات الاستنكار من فئة الطلبة الذين يعتقدون أن الرقم واحد هو تعبير صريح للرب الأوحد ، بينما أصوات التأييد جاءت من الطلبة فئة الأذكياء والذين يؤمنون أن لا شيء مستحيل مطلقا مع العلم ، بينما كانت الغالبية العظمى من الطلبة يمثلون فئة متعقلة ومنطقية طالبت بمواصلة الحوار بهدف خدمة العلم الذي يسعى خلفه العلماء ، ورثة الأنبياء والذين ويرفعهم درجات ،كررتُ التصفيق لكن بوتيرة أعلى وأشرتُ لأدهم أن يعتلي المنصة بقربي ، اقترب أدهم مزهوا ووقف بجانبي غارقا في تفكيره وحواره الداخلي كأنه يبحث عن حجج مقنعة أكثر كاستعداد لمواجهة أسئلتي التي يهابها وزملاؤه كثيرا ، أمسكت بيده وقلت له بصوت حنون لم يعهده مني:
كم تساوي أنت لو افترضنا أن هذا العالم جهاز حاسوبي لا أكثر ؟
بدا من وهلة الأمر الأولى مصدوما من سؤالي أو ربما من نبرته الغريبة عليه كغرابة نظريته عليّ ، ثم استدرك الأمر وقال بثقة تكاد تضيء من حدقتيه اللتين ظهرتا هذه المرة كزيتونتين مضيئتين دون الحاجة للأشعة تحت الحمراء :
صفرا هذه هي قيمتي فإذا ما اعترف الكون بي صفرا يمكنه الارتكاز عليه يمكنني أن أتحول بداخله من نقطة صغيرة مرتبطة باتجاه كتاباتها يمينا أو يسارا لنواة ستكبر وتكبر وتصبح كونا آخر قد يصل ليضم الكون الآن ،أما إذا جحد بي هذا العالم المقيد بالوهم والجهل فأنا لن أكون أكثر من واحد يحتاج لأصفار لا عدد لها ليكبر ويكبر ببطء
وصعوبة ،وقد أموت خلال هذه العملية وأنا لازلت واحدا بل فردا أدار له العالم ظهره الأحدب.
وتعالى صوت التصفيق للمرة الثالثة ، لكن هذ المرة كان مصدره زملاء أدهم كأنهم بذلك يخبروه أنهم معه في مواجهة الحدبة البشعة لظهر العالم العجوز جنبا إلى جنب كأنهم سلسلة طويلة من الأصفار كما تخيلتهم لا ينقصهم إلا رقم واحد يأتي من اليسار ليقتنع العالم بهم ويدير حدبته بعيدا عنهم.. غصت بأفكاري هذه في حين كان أدهم يرنو إلي بوجهٍ بريء يستجدي مني تأييده والاعتراف كوني صفرا وأنا التي قضيت عمرا بأكمله للانتقال من مستوى الصفر للواحد مفتخرة بارتقاء الدرجة الأكثر صعوبة في حياة الكائن الحي عموما والبشري خاصة ، الذي يولد وفي قرراة نفسه أنه صفر وضيع يحتاج بشدة لمساندة الحظ ليتحول ويصبح واحد يشار له بالبنان . عند هذه النقطة تحديدا انفرجت شفتاي ببطء وسؤال يكاد يقفز منهما إلا أن أدهم كما يبدو أعجبه لحظة سكوني وصمتي وقال بعد أن أحاط كتفيّ بذراعيه القويتين كما يليق بشاب صغير في مثل عمره وأعلن للقاعة أني الآن أبدو كصفر يتوسط محور الصادات ومحور السينات يصنع سدا منيعا بين الحقيقة والخيال ليحافظ على اتزان العالم باعتبار أن الخيال بداية الجنون وأن الحقيقة بداية التشدد ، وبالتالي يمكن لكل الطلبة أن يعتبروني محور ارتكاز القاعة التي تموج بمختلف الأفكار والعقليات ثم انسحب ببطء ليتركني وحيدة في مواجهة السخط واللغط، وعلامات الاستفهام وكأن القاعة حقا وقفت بزواياها الأربع على جسدي المنكمش بالعجز والمستند على عصا خشبية تقف كالواحد وتقوم بدور رجل ثالثة ومحور ارتكاز خارجي لجسدي الضعيف.
أميمة راجح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب