السبت، 27 أبريل 2019

. وقفة على ديوان

.
                وقفة على ديوان:
︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾︾

           جماليات المحتوى والأسلوب 
        مقاربة نقدية في ديوان: "صعلكة"

          للشاعر الساخر: عمار الزريقي

بقلم: الأديب الناقد الأستاذ عبد الرقيب الوصابي

                 *     *     *

الشعر ليس إطلاق الانفعال ـ وإنما الفرار منه ـ وليس التعبير عن الشخصية ـ وإنما الفرار منها بالطبع، فقط أولئك الذين لهم شخصية قوية ـ وانفعال صادق يعرفون ما معنى الفرار من هذه الأمور ـ ومسئولية كهذه تحتم على الشاعر في كل عصر ـ وفي العصر الحاضر بوجه خاص، تحقيق ثلاث مهام عسيرة ـ أولاها ـ أن يعكس الشاعر الأشياء ـ كما تنعكس تأثيراتها على نفسه ـ فلا يكفي أن يقدم لنا الشاعر واقع المرئيات كما هي في وضعها الطبيعي ـ وإنما يقدم لنا تأثيرها وسرها في نفسه لكي نستجلي زيادة في خلقها آفاقا من أبعادها، أما المهمة الثانية، فيتعين عليه أن يخلق لمحتواه الجديد، شكلا منتزعا من موضوعه، لأن لكل شاعر شكلا جديدا وأساليب شتى لتناول محتوى أكثر انسجاما معه، واستجابة للمحتويات، تنوعت موسيقى الشعر، وتعددت أساليب الشعراء، وثالث هذه المهام، أن يقيم الشاعر علاقة جدلية مع الواقع، وأن يكتشف واقعا جديدا، من خلال الواقع المرفوض وليس مشروطا على الشاعر أن يخلق هذا الواقع الأفضل، وإنما عليه أن يتبناه ويبشر به عن طريق رفضه للواقع القائم وطول الجدل والصراع معه.

وأزعم أن الشاعر الشاب: عمار الزريقي قد نجح إلى حد كبير في تحقيق هذه المهام، حين نراه يزاوج بين موقف الصعلكة، وأسلوب السخرية، والصعلكة بالنسبة للمفهوم الذي يتبناه الشاعر، ليست سلوكا اختياريا يسلكه الإنسان أو يتخذه منهجا لحياته، بل هو سلوك حتمي وحالة حضارية، تولد كرديف لغياب قيم العدل والمساواة، حيث يستبد الكبار المترفون بكل شيء، ويستأثرون بكل شيء، ولا يتركون لسواهم ما يسد الرمق، فيجد الفقراء أنفسهم مضطرين للخروج والتمرد إنصافا لأنفسهم ولأترابهم، مما لحق بهم من الظلم والتعسف والتمييز.

ولعل مجموع اشتغالات الشاعر في مجموعته الشعرية الأولى: "صعلكة" ستعمد إلى تعزيز هذه الرؤية ـ وعند تسليط الضوء النقدي سيتضح ذلك للقارئ اللبيب، فالشاعر: عمار الزريقي ينشد معاني الحرية، عبر ما يوجهه من نقد حاد يحمل نبرات ثورية تشبه إلى حد كبير الخطاب الشعري الذي أنتجه الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي.

يكشف هذا الخطاب النقدي الساخر المتسرب من ثنايا الخطاب الشعري لقصائد المجموعة الشعرية: "صعلكة" ما تعانيه المجتمعات العربية من اضطهاد وتخلف تسبب بدوره في إعاقة نموها، وأدى في الآن ذاته إلى تراجع حضورها بين الأمم.

بقول الشاعر في قصيدة: "وسواس":

إذا شئت أن تكسب المعركة
فهاجر إلى الله في المملكة

ولا تشتر اللغو في بــيتــه
ولا تؤثرالخوض في الفسبكه 

وقل يا إلــهي تـبرأت مــن
بلاد ومـــن أمـة مشــركة 

أناب الرفاق إليــها ســدى
وماتوا على ملة الصعلكـة

ولا أظن أن الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى آفاق أوسع، إذ أن دلالات العذاب تتنوع وتتعدد - بتعدد أساليب الشاعر - وطرائقه في السخرية، بدءا من الشعر مرورا بالفكرة، والرؤية، والرؤيا، عبورا بعناوين القصائد، وقد جاءت العناوين على النحو التالي:
"وسواس، رسالة إلى الإمام الشافعي، سيرة مخضرم، شاعر المليون في حوار مرئي، كذبة إبريل، سارق المكحلة، خطاب تاريخي، دادا، تحقيق في كتاب ممنوع، قول ثقيل، هوية، اعتراف جبان، أنا وصاحبي، إنتفاضة الحروف، نكاية 1، ونكاية 2، جمعة الوداع، فخامة الديك، تشفي، أخبار عاجلة، صباح الخير ياوطني، نوافل، جزر ومد، الأخضر المعجزة، امتحان تحريري لميدان السبعين، أيلول ـ بطاقة عيدية، وليمة كنتاكي، قميص الرمال، عودة البسوس، أكشن، مطب، بطالة إبليس، أزمة، زهرة وأزواجها الخمسة، عباد الشمع"، ومن خلال عرض عناوين قصائد المجموعة آنفة الذكر، يتضح أن التعدد الأسلوبي الذي اعتمده الشاعر، قد عمل على كسر حدة رتابة قراءة هذه القصائد، فالتنويع والتعدد في الأسلوب يشجع تداوليا على استمرار فعل القراءة، كما تشف عناوين القصائد عن شيوع بنية الجملة الإسمية لتراكيب العناوين، فاللغة مادة حية يستعملها الشاعر من الأصل، في تحقيق التواصل والتفاهم محملة بالدلالات التي لا يستطيع الشاعر أن يتجاهلها، أو أن يستغني عنها، غير أنه قد استطاع أن يضيف إليها، أو أنه قد عمل - قاصدا - على نقلها من سياق، إلى سياقات أخرى وأكسبها دلالات جديدة، كما أن "بنية العناوين" تعكس - في الآن ذاته - ركود المجتمعات العربية وثبوتها وانتفاء فاعلية حياتها، كما أن قراءة العناوين مع القصائد باعتبار أنها أي العناوين / العتبات الداخلية تتداخل وتتجاور مع العمل الإبداعي، ليكشف أن المجموعة الشعرية: "صعلكة" بالإمكان اعتبارها أكثر من تجربة شعرية، في الآن ذاته، فــ"انتفاضة الحروف" مثلا وهي سبع قصائد، يشتغل فيها الشاعر، على مدلولات الحروف العاملة فـ"النحة العربي" ليسقط عليها ما يتجانس معها، من الناحية النفسية والإنفعالية، وقصائـــد: "نوافل" تعد كذلك زاوية النظر التي اعتمد عليها الشاعر في اشتغالاته، مجموعة شـــعرية ثالثة تتقاطع مع بقية قصائد الديوان، وتتفرد في بعض الزوايا أسلوبا ومحتوى.

وعند إعادة النظر كرتين، بقصد الإبحار باتجاه العمق، واستنطاق المجموعة الشعرية قد تتجلى الرؤية أكثر عند ربط العناوين الداخلية للقصائد، بعنوان المجموعة الرئيس: "صعلكة"، إذ جاء العنوان الرئيس للمجموعة مشفوعا بصورة على لوحة الغلاف، تضم ديكين يتصارعان صراعا عنيفا، صراعا يتراسل دلاليا مع أجواء الخطاب الشعري المنتج عن قصائد المجموعة، ولعل عنوان المجموعة الشعرية: "صعلكة" يزداد قيمة عند الوقوف على قصيدة: "فخامة الديك" الني تعد "واسطة العقد" وعندها تكتمل مسارات الدلالة، وتتضح أبعاد التجربة الشعرية، بما يؤكد لنا، أن الفرق بين شاعر له رؤيا حديثة، وشاعر لا يزال تقليديا: هو أن الأول يمكن له أن ينقذ شعريا قصيدة مكونة من تراكيب متنافرة بمجرد أن يمنحها ما يعود لها: العنوان، أما الثاني لو استخدم القول الشعري الحديث كله، فأي عنوان يتبرك به يشيء برداءة قصيدته التي يعتقدها عظيمة، بينما تظل هي تنتظره عند منعطف الطريق لتتمكن من جلده!!

في القصيدة آنفة الذكر: "فخامة الديك" يندد الشاعر باستبداد الحاكم، ويتلبس صوت قصيدته بصوت الديكتاتور، مرددا مقولاته التي تكشف عن طبيعة شخصية الحاكم الفرد، المتمسك بكرسي السلطة، في تشكيل لمفارقات ساخرة، فالحاكم يدعي أن بقاءه في السلطة وعدم تخليه عنها، إنما يرجع لمراجعة ضميره له، كما تعري القصيدة وعي الديكتاتور المتخلف الذي يجعل منه إلها.

يقول الشاعر في قصيدة: "فخامة الديك":

إن ديك السعيدة اليوم أعمى
ليس للفجر فـي مداه انبلاج

أحرجته العـيال ذات صبــاح
قالت.. اخرج إن الضحة وهاج

قال: ياللجنـون! لا تكذبونـي
قولي الفصل ليس فبه حجـاج

ليس وقت الصلاة بل ما رأيتم
من ضياء في بيت نعمى سراج

فاخلدوا في منامكم يافراخي
ثمّ في الشعب ثعلب مـهتاج

حتى يبلغ قوله على لسان الجماهير الثائرة:

هتفت يافخامة "الديك" فارحل
أو فكـابر ففي هـواك اعوجاج

وغدا سـوف نقتفيك قصاصا
وعلى الحق تقطـع الأوداج

وقريب من ذلك، ما نجده في قصيدته: "نكاية 1"

خذوني إلى موئل ذي قرار

جميع الشوارع محقونة بالضغينة

والقصر..

حيطانه تتشفى بهذا المصاب

حصاني حرون على غير عادته

والرفاق الجنود المنيبون 

أين الرفاق؟

الطبول؟

الغواني؟

الكؤوس؟

المزامير؟

أين المزامير؟

وا دولتااااااااه!!

يصور الشاعر في القصيدة السابقة امتزاج السلطة الحاكمة بعقد ذاتها، وجشع الحاشية، ونفاق المقربين، وحينها لا يجد الشاعر بدا، من توظيف السخرية، بوقعها الحاد، في مفاصل كثيرة من القصيدة ذاتها، حيث يكسب تكرار أين المزامير "مرتين" واختتام كل مقطع، بأسلوب الندبة، الذي يدل على التفجع أو التوجع من أمر واقع لا محالة، حتى حين يلجأ الإعلام الرسمي للتضليل، وتعميم أجواء الفرح والطرب "الطبول، الغواني، والكؤوس والمزامير"، وهنا يظهر دور السخرية كأسلوب، يرتضيه الشاعر، لمقارعة الطغاة والظلمة، أي أنه لا يمتشق سيفه، ولا يغير على ديار المترفين من بني قومه كما هو حال الصعاليك، بل يلجأ إلى السخرية، وبها يعري أخطاءهم، ويحاكمهم، ويسخر من مفارقات الحياة الظالمة، وبهذا يفقد المؤسسات والشخصيات قداستها، ليعيد ترتيب العالم من جديد، كما تظهر القصائد، قدرة عجيبة يمتلكها الشاعر، حين يتقمص الشخصية، ويصور صراعها النفسى، وتشبثها بأهداب الممكن، حفاظا على ماء الوجه، الذي أراقه باقتدار الشاعر الساخر: عمار الزريقي، على حين غفلة من الناس...

            وللحديـث بقــــية..        

            ولكـــــــــن..

   يكفي من البيـــان ما يدهش العصافير

                                                                           
                ┄┉❈❖❀✺❀❖❈┉┄  
                     من مختارات:
              سلطان نعمان البركاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *