السبت، 1 فبراير 2020

* باقة مشاقر * للكاتب : عبدالله الصنوي

في يوم الجمعة وأنا طفل كانت أمي تضع في
جيب ثوبي مَشقُراً💐لأبدو بكل أناقة ودلع،
تربط الشال على عنقي وتمشطُ شعري جيداً
بعد دهنه بالدهان الأبيض اللماع،وتبخ على ملابسي عطراً باذخاً من قارورة أبي دون أن يدري،
كانت تضع باقات المشاقر في قرطاس للحفاظ عليها بعد قطفها مباشرة من شرفة سقف بيتنا، لأذهب بها إلى المسجد قبل صلاة الجمعة وحين أصل إلى المسجد توصيني أن أوزعها على المصليين جميعاً،
هذا يبتسمُ لي وهذا يُقبلني عنوة وهذا يوسع لي مكاناً لأجلس بقربه،
كنت فَرِحاً ومسروراً بهذه المهمة التي وكلتني بها أمي وكنت أنفذها بكل إيمان ويقين أن الله يحب المشاقر كثيراً ويحب رائحتها الطيبة ،وأنه يتقبلها من أمي،
كنا نتنافس مع بعض أطفال القرية ونتسابق من يوزع مشاقره على الناس المصليين أولاً،
يفوح المسجد برائحة الناد الزكية ويعم الخشوع أرجاءه،ونُرتل التلاوات ونقرأ السور الصغيرة التي تليق بنا ک صغار بدلاً من سورة الكهف،ونستمع إلى الخطبة بكل إنصات ونهتم بتفاصيلها حتى ولو تكررت على مسامعنا أكثر من مرة ،كيف أغرق الله فرعون وقصة أصحاب الأخدود ويوسف الصديق وزليخة وأصحاب الكهف وسابعهم كلبهم،كلتا الجنتين ،وسفينة نوح ويغوث ويعوق ونسرا،وكم
كنا نتمنى أن لو يركب إبن نوح وينجو مع من في السفينة ،
كنا نخاف من قصص الموت المرعبة وأحداث الدمار وغزرائيل وزيارات المقابر،
نعود متشوقين ونذهب راغبين ومطمئنين إلى الصلاة وحلقات تحفيظ القرآن،
كانت حياتنا البسيطة جميلة للغاية ونحن فيها
أولئك الصغار الذين لا نعرف شيئاً ،رغم اننا لم ندرك ولم نحصل على الكثير من الأيام السعيدة والمتطلبات الضرورية  ،
كنا أطفالاً كما قال أحدهم نرتعب إن رأينا قطعة خبز ملقاة على الأرض نركض ونحملها إلى مكان عالي ونرسل قبلة إعتذار إلى الله، أو إن وجدنا حذاءاً مقلوباً هرعنا نرتبه على شكله الصحيح،
آه يالله أي أرواح طاهرة خسرناها في الطريق.

بعد أن مرضت أمي وبعد إصابتها بالجلطة النصفية، ذبلت مشاقر الجمعة ولم تعد شرفات سقف بيتنا عامرة بالمشاقر ،لقد غاب عنا المطر وأضمحل
الصيف والزهر،وحلت مضارب وأشرطة الأدوية بدلاً منها،
في يوم الجمعة وأنا صغير في الصباح وقبل ساعتين من صلاة الجمعة،ولأن أمي تطلب مني ماءاً دافئاً بسبب جلطتها فهي لا تحتاج إلى الماء البارد
بدوري كنت أُملئُ دبتين ماء أبو عشرين لتر تقريباً
ثم أتركها فوق خزان المياه الذي هو عبارة عن حديد على شكل مربع _من أجل أن يدفأ الماء الذي فيها حيث الشمس تكون حامية عند العاشرة صباحاً فلا كهرباء ولا سخانات سفرية_إن وجد فطاقة شمسية صغيرة ينفد ضوء بطاريتها قبل العشاء _
ريثما يأتي وقت صلاة الجمعة يكون الماء دافئاً فتغتسل به أمي،
كنت أحب أن أعمل هذا أسبوعياً حتى ولو لم تقل لي أمي وكنت أفاجأها حتى في يوم آخر ،
"لا حب يعلو فوق حب الأمهات
أرواحهنّ بياضها متدفق
وكفوفهنَّ الباقيات الصالحات،*
في يوم الجمعة وأنا في المدينة الآن لا أحضر إلى الجوامع باكراً فمنابرها قد إعتلاها الموت ولم تعد صالحة للسلام،ولا أشم رائحة المشاقر في الشوارع الممتلئة بالقاذورات ولا أبخ العطورات الباذخة على ملابسي البالية،ولا أهتم بمشط شعري الأغبر، ولا أنام كما ينبغي
آه يا أمي أنا بدونك لست إلا صعلوكاً
آه كم أودُّ أن أجلب لك الماء على ظهري ولو من الوادِ البعيد
كم أتمنى أن تغمرني رائحة أنفاسك العَطِرة
أن تمسحي على رأسي بيدك المباركة
أن تطفئينني يا أمي
أن أطير إليك فتضربيني بيدك أو بعصا وتقولين لي قبل أن تفعلي (ما أسخاش عليك يا عبدالله،أني أفدالك ملي،الله يرضى عليك يا ولدي)
أن يغادرك المرض ونحرق الأدوية
أن أمسك يدك وأتجول معك في الخارج وفي المسافات الطويلة،
أن نزرع معاً حقولنا الواسعة مشاقراً مشاقراً (حقول مشاقر)
كم أتمنى في كل جمعة وصباح ان تقطفيها
بأصابع يدك الحنونة وترتبينها على شكل باقات مشاقر ومن ثم تضعينها بداخل قرطاس لأذهب بها إلى المسجد بعد أن تربطي الشال على عنقي وتمشطي شعري وتبخي على ثوبي قليلاً من عطر أبي ثم حين أصل إلى المسجد توصينني أن أوزع باقات المشاقر على المصليين جميعاً.

باقة مشاقر 💐💐
عبدالله محمد الصنوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *