الأحد، 21 مارس 2021

لقطة سوداء بقلم الكاتبه أميمة راجح

لقطة سوداء

أنا الآن في عيادة الأذن والأنف والحنجرة بعد أسبوع كامل قضيته في الصبر محاولة تجنب هذه الزيارة لكنني أخيرا هنا ،في غرفة الانتظار الخاصة بالنساء المجاورة لحجرة الطبيب تماما، بها كراسي طويلة للغاية بلا ظهور ورائحتها مزيجا من الكلور والديتول، بجواري قريبتي تتأمل من النافذة ملعب شبه مكتمل يتبارى فيه فريقين أحدهما أزرق والآخر أصفر فسفوري وتعلق بطريقة لاذعة عندما يتشابكون بالأيدي لحل الخلافات بدلا عن الإنصياع للحكم الذي لا وجود له، في الجهة الأخرى طفلة اسمها عفاف ووالدتها القادمتين من عبس الجريحة ،حصلت على اسمها بصعوبة بالغة وبعد ترجمة حرفية لما قالت من والدتها وبالطريقة نفسها حصلت على اسم أمها ،في الحقيقة هما الكلمتان الوحيدتان اللتان نطقتهما رغم محاولاتي المتكررة واللانهائية معها لجرها للحديث الطفولي الشيق.
عفاف طفلة في الرابعة على مايبدو سمراء عيناها لوزتان كبيرتان ،وشعرها أصفر جاف من شدة ماتعرض للشمس ،ذكية وهادئة ،وذات ابتسامة جذابة لم أشهد مثلها قط وتبدو كأمها إذ لم تخونني فراستي.
خلعت حذائي ووقفت فوق الكرسي أخرجت رأسي من النافذة وقلت لعفاف:
أغمضي عينيك سأطير سأطير.
كانت عفاف تراقبني بعينين مفتوحتين كعيون قط يراقب فريسته غير مصدق أنه وجدها.
أخرجت يدي أيضا ورفعت قدمي اليمنى وشهقت عفاف وضحكت أمها ريم.
أمرتها ثانية وأنا أحاول تثبيت نفسي جيدا: إغمضي عينيك.
لم تستجب لي ،فعدت بجسدي المندفع  -نحو النافذة- للخلف ووقفت واضعة كلتا يداي على خاصرتي وقلت لها بعتب ومشاكسة: أجنحتي لن تخرج؛ لأنك تراقبينني.
تبسمت بهدوء وإلتصقت بأمها.
جلست بجوارها وقلت لها: 
"أقلش اسم أمي بس حبيني* "
وأشرت لخدي أوضح لها مكان القبلة ،لكنها رفضت بابتسامة كالعادة ،حاولت جر لسانها الصغير للرقص وحاولت ولا جدوى ،فاقتربت منها وقلت لها بصوت هامس:
اسم أمي رفيعة.
ضحكت بعدها بصوت عالي ،لأنها لم تصدقني فمنذ جلست وأنا أقول لها أسماء غريبة، قلت لها اسمي إبرة، زنبقة، تنفاش*، طماطه، ليمونة الحلوة .........الخ.
ثم مددت نحوها يدي ،نظرت لها وابتسمت مجددا ،لقد أصبحت أفهم ابتساماتها تلك جيدا، قلت لها: 
سلمي علي لتصبح يدك بيضاء كيدي.
ابتسمت أيضا،
اقتربت منها مجددا وقلت:
أنفي يؤلمني.
وتوجعت قليلا لعلها تحدثني ،لكنها ابتسمت ككل مرة،
سألتها ماذا تحب وعددت الأشياء، وأكتفت هي بابتسامة صغيرة برزت من خلالها أسنانها البيضاء الصغيرة الجميلة إنها الفتاة الوحيدة التي هزمتني وقابلت ثرثراتي اللانهائية بابتسامات باردة ومقتضبة.

عندما نادت السكرتارية اسم والدتها لدخول حجرة الطبيب ،قالت والدتها بصوت منخفض: عفاف فقدت القدرة على الحديث بعد حالة فزع عنيفة أثناء ليالي الحرب الطويلة، هل يستطيع الطبيب معالجتها؟

توقفت أنفاسي، وثبتت أحداقي على شفاه عفاف الغامقة، بعد لحظات قاسية من صخب الصمت وهول الحقيقة علقت:
لن يفعل،
فلا شيء سيعيد شغف الحديث لفتاة أتقنت لغة الابتسامة كعفاف.

أميمة راجح
الأربعاء
27/3/2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *