السبت، 18 يناير 2020

* تمثال * للكاتب : عبدالله الصنوي

أنا لستُ إلا تمثالاً من الطين اللازب وبعضاً من الماء الراكد صنعتني "أمي"ذات يوم في القرية الخالدة خارج الحقل تماماً فوق صرحها العظيم،وقيدتني بمواصفاتها المُحكمة،
لطالما حاولت التمرد وقت فعلَتها لكنني بت راضياً بالشئ بعد فشلي في التلاشي، إنساناً على هيئة تمثال وأحجار هشة،
تحُكني أسمالي القديمة إلى التراب ،وجه حبيبتي الأرض وأنفي الهاطلة المدببة،
أُمدد أنامل قلبي على قصاصة الأوراق ومن محبرة دمي أكتب،
أعود إلى هيئتي دون أن يلحظني أحد ما في المكان،
كل ليلة أقوم بعملي الخاص وأنفِذُ مهامي الجديرة بالذكر،
أنفضُ إلى الفضاء كمية كبيرة ممزوجة من اليأس والأمل والرسالات المكتنزة في لحافات الضلوع وفي جيوبِ قلبي المثقوبة دون نفاد الأعداد منها ،
المفردات المنتهية تستفزني ،واللغات النائية تنشطر من بين شفاهي الملتصقة ببعضها،الكثير من الشتائم المحفوظة لديَّ وبعضُ الكلمات الرديئة المتداولة بين الناس حبة ،حبة ألتقطها قبل وصولها إلى القاع في عملية إعادة تدويرها وفي سبيل المحافظة على أجزاء منها ،أعمل على ألا يتطايرن إلى البعيد،وألملمُ أطرافها بلطف ک ما لو كانت خَرزُ مسبحة أمي القديسة المتناثرة في أرجاء زوايا الغرفة وجوانب البيت الممتلئة بالأوتار وبالخيوط القديمة المشبوكة في أعياد الميلاد في الركن القريب،

وحده بيتنا المجيد قد شهدَ لحظة نحت تمثالي،
وحدها تناهيد أمي من باركتني ومجدتني لأُصبح بها شاعراً ولتكون حافزاً معنوياً لأصير،متفرداً وبهيُّ وأن أسلك مسلك الخاطئون الذين يجتبون أهدافهم والمآرب بشتى النجاحات،
لأصبحَ رجلاً يجلبُ القصائد الإسمنتية ويصطاد بها قلوب الصبايا الفاتنات سواء في المدينة أو في القرية، وليقتنص من خجلهنَّ التغنجي بلاغته السامية وألفاظه المسالمات ويحكمُ إغلاق أطراف جراءته أحياناً،
في خصوصيات ذلك يحتفظ بالمفتاح وبكلمة السر في صندوق صدره العميق ،ويغلق عليه بالسلاسل والأغلال وبالأقفال الكثيفة والصور الخاصة بإمراة عفوية كانت ولا تزال حبيبته،
وبما أنني أقف ملهوفاً وشاهقاً فقد شدَّ إنتباهي الهجس لأعتني بقدر إستطاعتي بتلك الخزائن وأذعن أن لا أحد سيقترب من أوكارها فسيمسه الشيطان باللغوب، أو لا أحد بإمكانه أن يحمل الثقل عني أو أن نتبادل الأدوار للبتة،
أفعل ذلك إستناداً وإستعداداً مني في مواجهة مرحلتي القادمة،الموت القادم من الشرق ،ومفاجآتي الموقوتة التي سأفجرها في الشارع العام حيث المارة والسيارات، حيث سيعلو صوت إسمي في صدا كل الشاشات الفضائية وفي مختلف مواقع التواصل الإجتماعي،
من أطراف الشمال سآتي بجماعة متطرفة وسأقوم بحملة إعتقالات لبعض من مجاميع السفلة الماردون، سأغفو من جديد على بناء مشاريع غير جيدة فيما قد تصبو على واقع مجتمع عقيم قد إعتاد على إعاقته وسذاجته في نفس الوقت،
لستُ سيئاً أبداً ولا وقحاً لأظل هكذا أحمقاً ولن أراهن على شئ في الوصول إلى مبتغاي،
فقط كي لا أبدو متخوفاً أطلب من الرب الشجاعة كي أحتمل ،وكي لا تبدو ثقيلة بالمرة عليَّ تلك الكلمات وأرداف اللغة سأقوم برصفها جيداً بعضها فوق بعض،
حتى وإن بدت عليَّ غير لائقة حمولة الأطنان منها سأخفي التعب من ملامحي عن وجه أمي عندما أعود إلى القرية البعيدة حينها وقد صرت مجرماً ومندوباً للنوايا السيئة،
كي أصعد إلى سلالم الإنسانية دون أن تنزلق مني  أي واحدة منهنَّ،سأتعملق شيئاً فشيئاً ، وسأُمسك بأطراف الرهان وبزمام الأمور، وعدم الإفلات بها في موقف صعيب كهذا ما قد يتسبب في الخسائر الفادحة،
فور وصولي تدريجياً إلى منصة المنظومة سأعيد ترتيب إبتساماتي الكاذبة،رغم ألا احد هناك ليستنظرني،
أو من قد يصفق بحرارة عندما أنتهي من رمي كلماتي المتملقة في وجهه،لا أحد حاضر فالمقاعد الأولى من المستمعين سيعتليها الظلال والأخيرة ستبدو باهتة،ولا يوجد أضواء ليتبين لي الأمر ويأتي الغائبون،
لشئ في نفسي سأنفضُ غبار آخر نصٍ كُحلي كأنفاس البلاد والعباد،كوني صرت شاعراً سأتقيئ تحركاته المشتبهه بطريقة بارعة،
سأبديه عارياً من الأوزان ،دون حروف للجر أو للعلة أو للسكون،
سيكون نصاً سوداوياً لطالما قد كان عالقاً بي منذ فترة طويلة،
بالطبع لن يعكس حال حرب ومدينة ومضطهدين وساسة حُمق،وبلاد بطحآء بل سيعكسُ حال نفوس ضاقت وضاقت ،وتهادت ک العذابات حتى صارت بحجم خاتم صغير وخصر إمرأة غجرية يلبسه الشيطان وهو يضحك،
بالكاد ليس شيئاً سيستدعي الوقوف عنده في المحطة الأخيرة، بل إنها تناهيد أمي ستنفخ في تمثالي أنفاس الحياة وسيعبرُ من خلالها الإنسان، الإنسان الذي سيبكي لتأخره في زمن الأطلال الذي عاد من جديد،
حين يسقط الإنسان للقاع العميق فإنه يحاول أن يحفر به قبراً طينياً معتماً ويتعايش طبيعياً مع العالم الموحش والوضع الخَطِر في الخارج،
ليتدرب على أن يكون مجرماً وشريراً عليه أن يلبث عشرون سنة إلا قليلاً في صمته المميت.

عبدالله الصنوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *