الاثنين، 6 يوليو 2020

انتصار بقلم نجلاء القصيص

ّ*انتصار*

بَعدَ مُرورِ بِضعةِ أيّامٍ مِن شَهرِ رَمضانَ أَحَسَّ بِتَحَسُّنٍ غَيرِ مُعتادٍ في صِحَّتِه، شَعر حِينَها أنّ الطّبيبَ كان مُخطِئًا في تَشخِيصِ حالته... كان يُحدِّثُ نَفسَه بِهذا وهُو مُنهمك في مُطالعةِ التَّقريرِ الطِّبِّي الذي استَلَمه مُؤَخّرً ... السّاعةُ تَجاوَزَتِ التّاسِعةَ والنِّصف صَباحًا وهُو التَّوقِيتُ ذاتُه الذي اعتادَ أن يَتَناوَل فِيه أدوِيةَ جُرثُومَةِ المَعِدَة التي وَصَفها له الطَّبِيبُ واستَمَرَّ على تنَاوُلها مُنذُ بِضعة أشهُرٍ، ومع ذلك لمْ يَشعُرْ بأيِّ تَحَسُّنٍ بل زادتْ حالتُه سوءً.

بَعدَ فَرَاغِه من مُراجعةِ التّقريرِ الطِّبِّي غيَر مَلابسه لأن عليِه مُراجعَةً المُستَشفى، أَخذَ مَفاتِيحَ سَيّارَتِه مِن على الطّاولَة، وسارَعَ باتِّجاهِ بابِ مَنزِلهِ المُكوَّنِ من طابقٍ واحدٍ وَحوشٍ صَغِيرٍ، يَحوي جُزءا مِنه حَدِيقة مُكتَظَّة بِأشجارِ المَانْجو والجُوافَة وبَعض المشاقر ذاتِ الرّائِحةِ الطَّيِّبةِ، وَقَفَ قَليلًا يَستَنشِقُ رائِحتَها العَطِرَةَ مُغَمِّضًا عَينَيهِ وتاركًا عالَمَه المُشَوَّهَ وَراءَهُ، فالمرَضُ جعَلَ حَياتَه صَحراءَ قاحِلةً.

صَعَدَ إلى السَّيّارَةِ، أَدَارَ المُحَرِّكَ، انطَلَقَ صَوبَ وِجهَتِه، الشَّوارِعُ تَكادُ تَكونُ خَالِيَةً مِنَ الحَرَكَة، فالرُّوتِين يَتَغَيَّرُ كُـلِّيًّا في هذا الشَّهرِ مِنَ السَّنَة، البَشرُ خَلفَ أبوابِهم المُؤصِدَة يَغُطُّونَ في نَومٍ عَمِيقٍ عَقِبَ لَيلةٍ تَعُجُّ بالسَّهَرِ والعَمَل معًا، مِن بَعيٍد يَترأىٰ له بائِع السّمْبُوسَة وبائع العَصِير أشبَهُ بِجُثَثٍ طَحَنَتْها حَربٌ لا تَنتهِي، مُستَلقِين يَفتَرِشُون بَعضَ الكراتِين ويَغُطُّون أجسادَهم بِبطانِيّاتٍ خَفِيفَة أمامَ عَرَباتِهم المُقفلة بِإحكامٍ إلّا مِن بَعضِ الذُّبابِ المُتَطَفِّل في ذَلك الرَّصِيفِ الخالِي مِن قَرعِ أَصواتِ أَقدامِ المارَّةِ.
يُتابِعُ سيرة مُتأمِّلًا مَدينةً خَالِيَةً مِن ضَجِيجِها المُعتادِ، يَلُفُّ يَمينًا ثُمّ يسارًا، ثمّ يَدخُل شارِعًا فَرعِيًّا يَقودُه إلى مَبنى المُستَشفى، بَعدَ نِصفِ ساعَة وبالتَّحديدِ عندَ العاشِرَة يُركِنُ سيّارتَه في المَوقِف الخاصِّ بالسَّياراتِ، ويَترَجَّلُ منها، وبِيَدِه المِلَفُّ الطِّبِّيُّ وقَلبُه يَنبُض بِشِدَّةٍ، يَتَوقَّعُ زَجرًا عَنِيفًا وأَوامِرَ صارِمةً لمُخالفَتِه التّعلِيماتِ الطِّبِّيَّةَ بِما يَخُصُّ صِحّتَه،
يَبتَسِمُ، لأنّه لا يُبالي بِكلامِ الآخِرين وإن كانُوا أطِبَّاء، هُو أَعلمُ بِنَفسِه وصِحّتِه مِن الجَميع.
يَتّجِه صَوبَ البَوّابة بِهُدوءٍ لم يَعهدْه، يُحدِّثُ نفسَه قائلا: سأُخبِره عن تَجرِبتي ونَتائِجها الإيجابِيّة، لن أَجعلَه يَلُومُني أكثرَ كعادَتِه،
مِن بَعِيدٍ يَرمُقُ المَمَرَّ بِنَظراتٍ ثاقبةٍ يَبدُو خَالِيًا من المَرضى مما سَيجعلُه فرِيسةً سَهلةً لِلَّومِ ونَصائِحِ الطَّبِيبِ، يدلفُ من البابِ للدَّاخل باتِّجاه قِسم الباطِنُِيّة.
تُرحِّبُ به المُمرِّضةُ وتَطلُبُ منه الانتظارَ قليلًا، فلا تَزالُ هُناك حالةٌ في الدّاخل، يَمُدُّ يدَه لصَحيفةٍ على الكُرسِي مُشبَّعةٍ برائِحة الحَربِ والمَوت، يَتَصفَّحُها سريعًا دُون قِرءاةُ كلمةٍ واحدةٍ فيها، يُلقِيها ويَأخُذ الرِّيموت، يَبدأُ بالتَّنقُّلِ بَين قَنوَاتِ العالَمِ المُختلِفَة. أَصبحَ مُنذُ زَمنٍ لا يَذكرُه مُدمنًا لطَعم السِّياسَة القاتِلة، هذا سَبَبٌ كافٍ لِجَعْلِه يَنفَعِلُ ويَمرض.
صَوتُ المُمرِّضَة مُناديةً عليه أنّ دورَه حانَ للدُّخول يُفِيقُه من عالَمٍ وُجِد لاغتِيال أمثالِه بأحداثٍ حقيقيَّة مِن قَلب المُعاناةِ ووجَعٍ يعِيشُه على الأرض.
يَبتَسِمُ الطَّبيبُ في وَجهه ويُومِئُ إليه بالجُلُوس، قائلا:
-تَبدُو صِحَّتُك على ما يُرام
- تَحسَّنتُ كثيرًا وأَوَدُّ إجْراءَ فُحوصاتٍ جَديدةٍ للتَّـأكُّـد فقط
- حسنًا، سَنقُومُ بإجراء الفُحوصاتِ
- بالمُناسَبة سَبَبُ تَحَسُّنِ صِحَّتي ليس العِلاجاتِ التي وصَفتها لي بل بِسَبَبِ الصِّيام.

بِاندِهاشٍ شَدِيدٍ يَخلَعُ الطَّبيبُ نَظّارتَه و يُتَمتِمُ بكلماتٍ غيرِ مُفهومةٍ وعَيناه يَكادانِ يَبتَلِعَان التَّقريرَ الطِّبِّيَّ المُلقَى أمامَه!……

*نجلاء القصيص*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *