سبأ بقلم بديع الزمان السلطان

"سبأ "

كبَابِ بيتٍ قديمٍ مسّهُ الصَّدَأُ !!
كحَقْلِ وردٍ صغيرٍ شفّهُ الظَّمَأُ !!

كلحنِ نايٍ حزينٍ مرَّ في أُذُنِ
العُشّاقِ فاحترقوا للآنَ ما انطفأوا

كعُشْبةٍ نبَتَتْ في الصَّخْرِ تبحثُ عن
ماءٍ ، فيسخرُ منها العُشْبُ والكَلأُ

كهُدهدٍ غابَ ؛ لا بلقيسُ آتيةٌ
ولا أحاطَ بها عِلْمًا ، ولا نَبَأُ

كيُوسفٍ وهو يشكو حُزْنَ والدهِ
وإخوةً عند بابِ الجُبِّ ما فَتِئوا

كقاتلٍ لأخيهِ ، هل يفِرُّ بلا
جُثْمانهِ؟ أم يُواريهِ ويَخْتبِئ؟

كوَجْهِ صنعاءَ يزهو مثل عادتهِ
مُكابِراً وهوَ بالأحزانِ مُمْتَلِئُ

كشاعرٍ فوق ظَهْرِ الليلِ يخْرُجُ مِن
مَجازهِ وعلى معناهُ يتّكِئُ

كعاشقٍ عند بابِ الشّوْقِ مُنْتَظِرٍ
عقاربُ الوَقْتِ في أجفانهِ صَدِئوا

كعائدٍ لم يجد في الدّارِ غيرَ صدىً
لصَوْتِهِ ، غيرَ ظِلٍّ منْهُ ينكفئُ

كطفلةٍ عند بابِ السُّوقِ تبْصِرُ في
عيونِها بؤْسَ مَن هادوا ومَن صَبأوا

كَكُلِّ مَن رُوِّعُوا بالقَصْفِ في بلدي
إلى جدارٍ بأقصى الدّارِ ألتجئُ

إلى القصيدةِ آوي كلّما اشتَعلَتْ
جوانحي ونفاني الشّوقُ يا "سبأُ"

أنا البلادُ التي تنأى بدمعتِها
عن حقدِهمْ وأنا العَيْنُ التي فقأوا

أنا أزَقّةُ صنعاءّ القديمةِ في
سُكُونِها وأنا النّقْشُ الذي قرأوا

أنا أنينُ الضّحايا ، خوْفُهمْ ، دَمُهُمْ
غُبارُهُمُ ، وأنا الجرحُ الذي نكأوا

أنا المآذنُ تُصغي وهيَ خاشعةٌ
لِقَصْفِ طائرةٍ قالوا لهُ : "خطأُ "

صّوْتُ الكمنجةَ والجيتارَ أسمعُهُ
همْسَ الذين على أشواقِهمْ طَرَأوا

يُزَمِّلُونَ حَناياهم إذا وجلوا
ويسردُونَ حكاياهم إذا هدأوا

يُعلِّقون بسَقْفِ الليلِ لهْفَتَهمْ
ويهرعون إلى الذّكرى التي خَبأوا

يا بنتَ هذي البلادِ الحبُّ أحجيةٌ
قديمةٌ ، وكتابٌ ليس يُجْتَزَؤ

عُمْرُ الغيابِ طويلٌ يا معذّبتي
فكلّما مرّ عامٌ مِنْهُ يبتَدِئُ

لا تغلقي البابَ في وجهي وإنْ ذبُلتْ
ملامحي وذوى الصّلصالُ والحَمأُ

أتنظرينَ إلى وجهي؟إلى جسدي؟
إنّي أحبُّ بروحي أيُّها المَلأُ

بديع الزمان السلطان