الأحد، 21 يونيو 2020

رصاصة مراهقة بقلم صفاء الهمداني

ق.ق

رصاصة مراهقة

في أحد صباحات مايو المتألق بطقسه الجميل وزقزقة العصافير الحرة التي تطير في بلدي الذي تكبله قيود الحرب من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه ، بينما كانت السحب مزينة للسماء بأشكال بديعة الإتقان ، تعكس الإبداع الإلهي العظيم ،كانت هي بأبهى حلة ممكن أن ترتديها زوجة على مشارف توديع زوجها المتأهب لخوض غمار مهمة صعبة بمقاييس عناد البشر.
هي: حبيبي ، أهذا آخر قرار ؟ هل بإمكانك التخلي عن هذه الفكرة المجنونة ؟ أنا أحتاجك كثيرا هذه الفترة.
حبيبتي: أعلم أنك في الأيام الأخيرة من شهرك التاسع، ووضع يده على بطنها مداعبا إياها ثم انحنى قليلا باتجاه بطنها وطبع قبلة عليها طامعا أن تخترق تلك الظلمات ، وتصل إلى كل جزء في سلام ! هكذا أتفقا أن يسمياه (سلام) بالرغم أن الوطن فارقت جسده روح السلام.
نظرت إليه نظرة حبا وحنان ثم أحاطها بذراعيه وتعانقا وصارا كوطنا واحد.
لعل غسان كنفاني عاش لحظات كهذه حينما قال: ”الوطن ليس شرطا أن يكون أرضا كبيرة ، فقد يكون مساحة صغيرها حدودها كتفين".

هو : حسنا حبيبتي ،حان وقت مغادرتي ، تعلمين أية مهمة صعبة تنتظرني في....وتنهد بعمق!
هي : في قصر الاجتماعات المشئوم ،أليس كذلك ؟ هل تعتقد أن بإمكانك أن تصلح بين أطراف نزاع ٍ كل واحد منهما أعتى وأعند من الآخر، كلً يريد مصلحته  ، وكلهم عيونهم على ثروات هذا الوطن المكلوم غير آبهين بمصير هذا الشعب المغلوب على أمره.

أحاطها بذراعيه مرة أخرى وقال:
سأحاول، ألم نتعلم سويا أن نخوض المغامرات الصعبة ولا نيأس أبدا، من أجل إبننا القادم سلام ومن أجل كل أبناء وطننا الحبيب.
ضمت يديه إلى شفتيها وقبلتهما وهمست:- أستودعك الله يا قرة عيني وياوطني الغالي ، أعيذك من كل شر ومكروه، فلترافقك عين الله في كل خطواتك نحو بناء جسر الصلح والسلام.

أنطلق الشيخ عامر ، الصغير في عمره الكبير بحكمته  وحنكته السياسية التي يشهد له بها الكثير من المشائخ والحكماء داخل وخارج الوطن. انطلق بموكبه المتواضع نحو قصر الاجتماعات الواقع في قلب العاصمة.

قبل وصول موكبه بخمس دقائق ، سمع صوت طائرة تحوم بكبرياء في السماء الفسيحة تبحث عن مأوى لتضع إحدى مواليدها من الصواريخ المدمرة للحرث والنسل ، ومن الأرض تنبعث مضادات لتلك الطائرة على أمل ان تشوه ذلك المولود الصاروخي  وتحقن أحشائه بمسكن تجعله يسقط بسلام ودونما إحداث أضرار على الأرض والإنسان.

على بعد أمتار معدودة ، سمع كل من في القصر  دوي انفجار عنيف حرك الطاولة المستديرة التي كانوا يجلسون حولها .هرع الجميع إلى مصدر الصوت فوجدوا سيارتان قد التهمتهما ألسنة الحريق وفي داخلهما جثث صارت متفحمة ، بعد التحري تعرفوا إلى جثة أحدهم ، لم يكن إلا الشيخ عامر.

هتف الجميع بصوت واحد: شهيد بإذن الله!

تم تصوير مكان الحادث وصورة المحنك السياسي عامر  ، حيث انتشر الخبر في كل وسائل التواصل الاجتماعي وكبرى الإذاعات والقنوات المحلية والعربية والعالمية ،حيث كان الخبر وجبة دسمة لكل تلك الوسائل ،  واستضافت الكثير من المحللين السياسيين لتحليل تلك الجريمة البشعة التي نفت كل أطراف الداخل علاقتهم بذلك وأدعت أنه ربما هناك أطراف خارجية لها صلة بالحادث.!

تم أخذ جثمان الشهيد الراحل إلى زوجته وأهله ليودعوه الوداع الأخير.
حين نظرت زوجته إلى ذلك الجسد المتفحم ، ذلك الجسد الذي كان يحتويها كوطن ، صار الآن مسجى بين يديها وقد صارت روحه عند بارئها ، تذكرت لمسة يديه على بطنها فتحسست جنينها سلام وصاحت بصوت هز الدنيا ،سلام أين السلام ؟
وقتئذ اخترقت بطنها  رصاصة طائشة مراهقة ،  على مرأى ومسمع جميع أطراف النزاع ، سقطت بجوار زوجها ليناموا مع إبنهم سلام بسلام آمنين إلى يوم الوعد المحتوم..

هتف طرفا من أطراف النزاع: الحمدلله الذي أستخلص هذه الأسرة لتكون من شهداء الوطن الذي يستحق أن يموت الجميع من أجله!!!
لربما فهم هذا الطرف قصيدة أحمد مطر بطريقته حين  قال:
نموت كي يحيا الوطن ..
يحيا لمن ...؟
نحن الوطن...
إن لم يكن بنا كريما آمنا..
إن لم يكن حرا ومحترما ...
فلا عشنا ولا عاش الوطن...

وصاحوا مكبرين:  قد كانوا مناضلين أحرار.. إنهم شهدائنا وسندفنهم في مقبرة المناضلين الأحرار.

هتف طرفا ثاني معارضا بشدة الطرف الأول وقال :
لقد كانوا من مناصري قضايا الوطن ، إنهم شهدائنا وسندفنهم في مدافن  أنصار الوطن الأبرار.

هتف الطرف الثالث معارضا الطرف الأول والثاني:
لقد كانوا من دعاة السلام الأخيار، إنهم شهدائنا وسندفنهم بجوار دعاة السلام الأخيار.

كان الجنين سلام يستمع إليهم ممتنا لله أنه اختاره ووالداه لينامو بجواره نوما هنيئا يحوطهم السلام ، وأنقذهم من تلك الطوائف التي تدعي النضال والحرية والسلام.

عندما وصل الخبر إلى محطات الإذاعة والتلفزة، احتار الإعلاميين كيف يتم صياغة الخبر فهتف أحدهم منقذا الموقف.
استخلص الله أسرة الشيخ عامر ليكونوا من شهداء السلام من أجل الوطن المتعطش لدم الشهداء!!!

صفاء محمد الهمداني..الأحد 30-7-2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادرج تعليقك في مجلة شعراء العرب

تابعنا على فيسبوك

Labels

شريط الأخبار

ads

حكمة

في بعض الأحيان الخطوة الأولى هي الخطوة الأصعب تقدم وأخطوها فقط وليكن لديك الشجاعة الكافية لان تتبع إحساسك وحاستك السادسة.

حكمة اليوم !

التسميات

العاب

منوعات

{"widgetType": "recent posts","widgetCount": 4}

Contact us

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *